الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {أَنزَلْنَاهُ...} [الرعد: 37]ساعةَ نسمعه نرى أن هناك مكانة عَلِيّة يُنزِل منها شيئًا لمكانة أدْنَى، ومثل ذلك أمر معروف في الحِسِّيات، وهو معروف أيضًا في المعنويات.بل وقد يكون هذا الشيء لم يَصِل إلى السماء؛ ولكنه في الأرض، ومع ذلك يقول فيه الحق سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [الحديد: 25]وهو إنزالٌ، لأنه أمر من تدبير السماء، حتى وإنْ كان في الأرض: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا...} [الرعد: 37]والحكم هو المُعْنى، والمقصود بالإنزال هنا هو القرآن، وهو كتاب؛ والكتاب مَبْنى ومَعْنى، وشاء الحق سبحانه هنا أن يأتي بوصف المبالغة ليأتي الوصف وكأنه الذات، أي: أنه أنزل القرآن حُكْمًا؛ وهذا يعني أن القرآن في حَدِّ ذاته حكم.وأنت حين تصف قاضيًا يحكم تمام العدل؛ لا تقول قَاضٍ عادلٌ بل تقول قَاضٍ عَدْل أي: كأن العدل قد تجسم في القاضي؛ وكأن كل تكوينه عدل. والحق سبحانه هنا يوضح أن القرآن هو الحكم العدل، ويصفه بأنه: {حُكْمًا عَرَبِيًّا...} [الرعد: 37]لأن اللسان الذي يخاطب به الرسول القوم الذين يستقبلون بآذانهم ما يقوله لهم لابد أن يكون عربيًا. ولذلك يقول في آية أخرى. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]أي: أنه شرفٌ كبير لك ولقومك، أن نزل القرآن بلغة العرب.وقد حفظ القرآن لنا اللغة العربية سليمة صافيةً؛ بينما نجد كل لغات العالم قد تشعَّبتْ إلى لهجات أولًا، ثم استقلتْ كل لهجة فصارتْ لغة، مثل اللغة اللاتينية التي خرجتْ منها أغلب لغات أوربا المعاصر من: إنجليزية وفرنسية وإيطالية، ووجدنا تلك اللغات تتفرَّق إلى لغات استقلالية، وصار لكل منها قواعد مختلفة.بل إن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال صارت إنجليزية إنجليزية يتكلم بها أهل بريطانيا؛ وإنجليزية أمريكية يتكلم بها أهل الولايات المتحدة.ولو تركنا نحن لغة التخاطب بيننا كمسلمين وعرب إلى لغة التخاطب الدارجة في مختلف بلادنا؛ فلن يفهم بعضنا البعض، ومرجع تفاهمنا مع بعضنا البعض حين نتكلم هو اللغة الفصحى.ودليلنا ما رأينا في مغربنا العربي، فنجد إنسانًا تربَّى على اللغة الفرنسية، أو تكون لغة جَمْعًا بين لهجات متعددة من البربرية والفرنسية وبقايا لغة عربية، فإذا حدثته باللغة العامية لا يفهم منك شيئًا، وإن تحدثت معه باللغة العربية استجاب وأجاب؛ لأن فطرته تستقبل الفصحى فهمًا وإدراكًا.وهكذا رأينا كيف صان القرآن الكريم اللغة العربية واللسان العربي.ومن ضمن معاني قول الحق سبحانه: {حُكْمًا عَرَبِيًّا...} [الرعد: 37]أي: أن الذي يصُون ويعصِم هذا اللسان العربي هو القرآن الكريم.ويتابع سبحانه بقوله: {... وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37]وهذا خطاب مُوجَّه منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم يكشف فيه الحق سبحانه أمام رسوله صلى الله عليه وسلم مَضارّ وخطورة اتباع الهوى؛ وهو خطاب يدل على أن الدين الذي نزل على موسى ثم عيسى، وهما السابقان لرسول الله؛ لم يَعُدْ كما كان على عهد الرسولين السابقين؛ بل تدخَّل فيه الهوى؛ ولم يَعُدْ الدين متماسكًا كما نزل من السماء.ولذلك يقول سبحانه في آية أخرى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض...} [المؤمنون: 71]ذلك أنه سبحانه لو اتبع أهواءهم لَضَاع نظام الكون؛ ألم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا...} [الإسراء: 92]ولو استجاب الحق مثلًا لهذه الدعوة، ألم تكن السماء لتفسد؟إذن: فبعد أن نزل القرآن من السماء حكمًا وعلمًا ومنهجًا يسهل عليهم فهمه، لأنه بلُغتِهم، وهم يحمل كامل المنهج إلى أن تقوم الساعة، وفيه دليل السعادة في الدنيا والآخرة.لذلك فليس لأحد أن يتبع هواه؛ فالهوى كما نعلم يختلف من إنسان لآخر، والخطاب المُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن في طيّاته الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم.ومن يفعل ذلك فليس له من دون الله وليّ يؤازره أو ينصره، أو يقيه عذاب الحق: شقاءً في الدنيا، وإلقاءً في الجحيم في الآخرة. اهـ.
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}.الآية، هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب، لأن الفرح بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم دليل الإيمان.ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، وقوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} الآية.وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك، كقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} إلى أن قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} وبين في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر، وهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} سورة آل عمران.والجواب: أن الآية من العام المخصوص، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود، وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى المشهورين، كما قاله الماوردي وغيره، وهو ظاهر ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ..} الآية. اهـ..قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} قيل: هذا متصل بقوله: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [7] وأن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن، وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصرّوا على تعنتهم وطلبهم، ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية، من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد.ومعنى: {سيّرت به الجبال} أي: بإنزاله وقراءته فسارت عن محل استقرارها: {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} أي: صدّعت حتى صارت قطعًا متفرقة: {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} أي: صاروا أحياء بقراءته عليهم، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء.وقد اختلف في جواب: {لو} ماذا هو؟ فقال الفراء: هو محذوف، وتقديره: لكان هذا القرآن، وروي عنه أنه قال: إن الجواب: لكفروا بالرحمن، أي: لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن، وقيل: جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله: {مَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الأنعام: 111] وقيل: الجواب متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير، أي: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا إلى آخره، وكثيرًا ما تحذف العرب جواب: {لو} إذا دلّ عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس:أي: لهان عليّ ذلك: {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} أي: لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدّى إليه كون الأمر لله سبحانه، ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته، ويدلّ على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا أن يشاء الله لهدى الناس جميعًا}.قال الفراء: قال الكلبي: {أفلم ييأس} بمعنى: أفلم يعلم، وهي لغة النخع.قال في الصحاح: وقيل: هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف.قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة عليّ، وابن عباس، وجماعة: {أفلم يتبين}، ومن هذا قول رباح بن عدّي: أي: لم يعلم، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري: أي: لم تعلموا، فمعنى الآية على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا من غير أن يشاهدوا الآيات، وقيل: إن الإياس على معناه الحقيقي أي: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعًا في إيمانهم: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص أي: لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة أي: داهية تفجؤهم، يقال: قرعه الأمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب.قال الشاعر: والمعنى: أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب، وقد قيل: إن القارعة النكبة، وقيل: الطلائع والسرايا، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعمّ من ذلك: {أَوْ تَحُلُّ} أي: القارعة: {قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم.وقيل: إن الضمير في: {تَحُلُّ} للنبي صلى الله عليه وسلم.والمعنى: أو تحلّ أنت يا محمد قريبًا من دارهم محاصرًا لهم آخذًا بمخانقهم كما وقع منه لأهل الطائف: {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} وهو موتهم، أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حلّ بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدّة، وقيل: المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار، والأوّل أولى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة.{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} التنكير في رسل للتكثير أي: برسل كثيرة، والإملاء: الإمهال، وقد مرّ تحقيقه في الأعراف: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب الذي أنزلته بهم: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الاستفهام للتقريع والتهديد أي: فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزءوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم.ثم استفهم سبحانه استفهامًا آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ} القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف أي: أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضرّ.قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل: المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم، والأوّل أولى، وجملة: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} معطوفة على الجواب المقدّر مبينة له أو حالية بتقدير قد أي: وقد جعلوا، أو معطوفة على: {وَلَقَدِ استهزئ} أي: استهزءوا وجعلوا: {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي: قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ؛ لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحّق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت يعني: أنه أحقر من أن يسمى؛ وقيل: إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديدًا لهم: {أَمْ تُنَبّئُونَهُ} أي: بل أتنبئون الله: {بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأرض} من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض: {أَم بظاهر مّنَ القول} أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة؛ وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لايعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكًا، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادّعوا له شريكًا في الأرض.وقيل: معنى: {أَم بظاهر مّنَ القول} أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر: أي: زائل باطل، وقيل: بكذب من القول، وقيل: معنى: {بظاهر من القول} بحجة من القول ظاهرة على زعمهم: {بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} أي: ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم.
|